تشهدُ مزارع الذرة الرفيعة في منطقة جازان هذه الأيام، حراكًا زراعيًّا لافتًا مع بدء موسم الخضير، الذي يعود سنويًّا ليؤكد حضور هذا الإرث الزراعي العريق في وجدان أبناء المنطقة، ويُعيدهم إلى جذورهم الزراعية.
وتتزينُ الحقول بلونها الأخضر المائل إلى الصفرة، حيث يشرعُ المزارعون في قطف سنابل الذرة قبل اكتمال نضجها، في واحدةٍ من أبرز مراحل العمل الزراعي بالموسم، إذ تكتسب هذه المرحلة أهميةً خاصةً كونها تحدد طراوة وجودة الحبوب التي ستُستخدم في إعداد وجبة “الخضير” التقليدية، التي تعكس التراث الغذائي لأبناء جازان.
ويستمد موسم الخضير خصوصيته من ارتباطه الطويل بتاريخ الزراعة في المنطقة، إذ جاءت التسمية من لون حبات الذرة الرفيعة الخضراء التي تُقطف مبكرًا قبل استوائها، لتُجهز وتُطحن وتُحضر بوصفه أحد المكونات الغذائية التقليدية على المائدة الجيزانية، فحافظت المجتمعات المحلية على طرق التحضير القديمة عبر الأجيال.
ويعدُّ الخضير من المحاصيل التي ازدهرت في القرى الجبلية والساحلية على حدٍّ سواء، مستفيدًا من المناخ الحار والرطب الذي يوفر بيئة مناسبة لنمو الذرة الرفيعة بنوعيها الأبيض والأحمر، حيث بلغت المساحة المزروعة أكثر من 60 ألف هكتار، تنتج ما يزيد على 55 ألف طنٍّ من الحبوب سنويًّا؛ مما يجعلها من الركائز الغذائية والاقتصادية للمجتمع الجيزاني.
وتشهدُ الأسواق المحلية خلال الموسم وجود حزم سنابل الذرة بأسعار متفاوتة حسب النوعية والكمية والجودة.
وأكد عدد من المزارعين أن زراعة الذرة في جازان ضاربة في القدم، حيث اعتمد الأجداد والآباء على مياه الأمطار، مشيرين إلى أن صناعة وجبة “الخضير” لا تتم إلا في مواسم محددة، مما يجعلها محبوبة لدى الأهالي وزوّار المنطقة، وذات مردود اقتصادي مهم للمزارعين، إذ تنتشر حزم الذرة في الأسواق ومداخل المدن والقرى.
وبيّنوا أن الذرة الرفيعة تشكّل مصدرًا غذائيًّا أساسيًّا للأهالي، ومصدر دخل اقتصادي مهم لهم، كما يحظى موسم الخضير بمكانة خاصة لديهم، لكونه موروثًا شعبيًّا متوارثًا عبر الأجيال، إذ يحافظ على طراوة ونكهة الحبوب الفريدة قبل اكتمال نضجها، كما يعكس حرص المجتمع على استمرار هذا الإرث الزراعي.
وتتم عملية التحضير للخضير بوصفها وجبة غذائية بطرق مختلفة، حيث يبدأ المزارعون بقطف سنابل الذرة، ويجري جمع الحبوب وفصل الحبة عن سنبلتها بعد ضربها بعصا في عملية تُعرف باسم “الخبيط”، لتقوم النساء الجيزانيات بعد ذلك بجمع حبات الذرة، وغسلها بالماء، وطحنها بشكل جيد حتى تصبح جاهزة لعملية الطبخ.
وتتفننُ النساء في إعداد أطباق متنوعة من الخضير؛ فمنهن من تقدمه على شكل رغيف يُخبز في التنور ويؤكل مع الحليب واللبن، أو يُعدّ منه طبق “المرسة” بعد مزجه بالموز والسمن والعسل، أو طبق “المفالت” الغني بمكوناته الغذائية العالية، وهناك من يفضّل تناوله مسلوقًا مع الملح، بينما يختار البعض تحضيره مشويًّا في السنابل فيما يُعرف بـ”الشويط”.
ويُعد موسم الخضير مناسبة احتفالية سنوية، حيث تعكس حركة البيع في الأسواق تقدير المجتمع لدور المزارعين، وتسهم في إبراز المسار الزراعي للمنطقة من خلال مهرجان الخضير، الذي يُسلّط الضوء على جهود المزارعين ويؤكد استدامة هذا الموروث الزراعي العريق.
ويمثل الموسم أكثر من مجرد نشاط زراعي، فهو لوحة حية من التراث والذاكرة الجماعية، تعكس تواصل الأجيال مع الأرض ووفاءهم للعادات الغذائية الأصيلة، لتبقى حبات الذرة الرفيعة رمزًا للهوية والوفاء للأرض والناس على حدٍّ سواء.



(
(
